جحظت عيناه من الخوف وهو يتخطى بوابة المشفى ويديه تتشكلان كعصاً تستند
عليها، يده المرتعشة ويدها بارزة العروق!
ببطء كانت سمة خطواتهم، ربما هو اعتاد الاسراع فى المشى ولكنها لم تكن
لتجاريه وهى فى أحسن حالتها فما بالك بتلك الحالة!
وبالرغم من اختلاف موسيقى ضربات قلوبهم إلا أن شىء ما جمعها، قلبه الذى
تتسارع دقاته خوفاً وقلبها الذى تتباطىء دقاته مرضاً!
تتعثر خطواته وهو يتركها ليسأل عن الاستقبال ويتلعثم لسانه كلما أراد
السؤال ثم يعود إليها ويكملا الطريق ..
____
بدا كنقطة بيضاء صغيرة أمام ذلك الكيان العظيم الذى اكتسى بالسواد، يرتدى
ملابس بيضاء تتسم بالزهد والبساطة، تستر جسده ولكنها تركت ذراعيه عاريين ولكن
الدفء الذى يشعه ذلك الكيان غمره، انثنت قدماه تحته وهو جالس ينظر إليها فى خشوع،
الكعبة!
إنها اكبر كثيراً مما تبدو فى الصور والتلفاز، كانت رأسه قد خلت من الشعر
وقد حلق ذقنه وشاربه بعناية فبدا وكأنه طفل وليد وكطفل وليد لم تخلو عيناه من
الدموع ..
____
أوقد مصباح الغرفة الصغيرة الذى حولها لمعمل طبى وجلس واضعاً رأسه بين يديه
ثم رفعها وداعب لحيته الطويلة، كانت لحيته تميل للصفرة تماماً كما شعره ولون وجهه
ولعل الفضل فى لون الشعر واللحية يعود لوالدته، وربما صفرة وجهه ايضاً!
"أن تكون طبيباً وتفشل فى معالجة من تحب وتفقده وترى لحظة رحيله امام عينيك
بكل عجز"
دارت العبارة فى رأسه وبعدها سقطت على الطاولة ثم رفعها وكرر الأمر على صدى
صوت بكاءه!
____
زوار الفجر دائماً ما يكونوا على عجلة، رجال أمن يقتحمون منزلاً وفى لحظات
تفقد عائلة أحد أفرادها لسنين وربما للأبد، ملك موت يقبض روحك أثناء نومك ويستيقظ
من حولك فى الصباح ليجدوك جسد غادرته الروح، وهما كانا من زوار الفجر!
دلفا لغرفة الاستقبال ومرت دقائق بدت وكأنها دهر بأكلمه حتى ظهر طبيب الإمتياز
المُجبر على التواجد فى ذلك الجو قارص البرودة ليلعب دور جنية الأحلام التى ستحقق
لمرافقى المرضى أمنياتهم فى شفاء ذويهم
____
أن تجلس على مقربة من الكعبة أمر وارد الحدوث أما أن تجلس مثله وحدك امامها
فهو حدث غريب!
لم يتغير وضعه منذ ساعات قدماه تنثيان تحته ويديه ترتفعان أمام وجهه ولكنها
لا تحجب عن عيناه الكعبة لأنها كانت تستحوذ على مدى بصره بأكمله ..
يتعاقب الليل والنهار وهو ثابت على هذا الوضع وكأنه خارج الزمن، أن ترى
شروق الشمس وانتشار أشعتها الاولى لتغمر الكعبة وتغمر وجهك معها وكأن الشمس جعلت
من اشعتها يد تجفف بها دموعك، الأمر بأكمله يؤكد أن هناك معجزة ما على وشك
الحدوث!!
____
إنه يحاول! جميعهم يحاولون، هو وأصدقاء دراسته واساتذته، الجميع يحاول
الوصول لعلاج يُرغم ذلك القلب الذى تتباطىء خطواته على النهوض والركض مرة اخرى، كل
ما فعله فى تلك الليلة هو مراقبة قلبها وهو يبطىء شيئاً فشيئاً حتى توقف!
أصوات دقات قلب سمعها وهو مُكبل بأغلال من العجز، جلَّ ما يريده الآن الا
يتكرر الامر، لا يريد لغيره من البشر المرور بذلك الاحساس، ذلك الإحساس الذى لا
يعلم أحد مقدار مرارته سواه!
____
أن تبحث عن علاج فى مستشفى حكومى هى تجربة مؤكد ستفكر كثيراَ قبل أن
تكررها، فى المستشفى الحكومى لا يوجد مجال للخصوصية، إنها كخيمة واحدة لعلاج ضحايا
الحرب فربما وأنت تحدث الطبيب ستجد رجل عجوز يقترب منه ويكشف عن مؤخرته ليدس
الطبيب حقنة قاتلة للألم بها وعندما يلاحظ توقفك عن الحديث يهتف بروتينية: أكمل!
ولهذا كانت يداه مازالت متمسكة بيدها ..
____
"رباه!" قالها باكياً ولعلها الكلمة الوحيدة التى يتحرك لها
لسانه وشفتاه بين الأسبوع والآخر، اما قلبه فهو لم يصمت عن الدعاء منذ شهور ..
تفتح الكعبة أبوابها وربما السماء معها فيقف اخيراً ويتجه بخطى مرتعشة وقلب
ثابت، ثم يُغلق الباب خلفه!
____
لحظات من الصمت انتابته، الأصوات تتداخل فى عقله وهو ينصت فحسب، لعله طرح
على عقله سؤال او اثنين ولكن فى النهاية توقف امام الحقيقة التى يريدها ..
نحن لا نحيى المرضى، إن حانت ساعة الموت فالطب سيقف عاجزاً امامها بعلماءه
وادويته واطبائه الماهرين، ولكن الهدف ..
الهدف أن تعيش ما تبقى لك من الوقت دون ألم، الهدف هو القضاء على الألم!
____
لم يكد الطبيب الشاب يضع سماعته ليستمع إلى دقات قلبها المريض حتى وجده قد
بالغ فى التباطىء بالفعل، وربما كاد يقف! غابت هى عن الوعى تماماً كما غاب جهاز
المرافق العصبى وهو ينظر للطبيب الشاب فى استعطاف وكل شىء به يصرخ: إفعل شيئاً!
واخيراً تحرك الطبيب ..
____
يكبّر، يتردد صوته العذب داخل جدران الكعبة
يركع، تتساقط دموع الشوق والفرح الصادقة
يسجد، يعلو صوته بالدعاء لكل أهل الأرض
ربما جال بخاطره أفكار كثيرة عن الكعبة، البشر يقدرون الأماكن والبنايات
والرموز ..
انظر حولك، بدءاً من الاهرامات لسور الصين العظيم للبيت الأبيض!
البناء لا يضر ولا ينفع، إنه مجرد رمز ولإننا نعشق الرموز كأحد اهم
مفاتيحنا للولوج لعالم الروحانيات وضع الله لنا فى الارض بيتاً نزوره لندعوه
ويملؤنا ثقة لا حدود لها انه لن يرد دعائنا، لأن هذا هو ما اخترنا أن نؤمن به!
ولهذا حين سار مبتعداً وبدأ يلاحظ البشر والزحام الشديد الذى لم يحس به
طيلة مدة بدت وكأنها أقل من أقل وحدة لحساب الوقت كان الشىء الوحيد الذى يثق به هو
أن الله لن يخذله ولم تكن مجرد ثقة، كانت أكثر من يقين!
____
تمر الايام والشهور عليه وهو بذات المعمل لا يكاد يخرج منه إلا لزيارة
كيميائى أو صيدلى او زميل دراسة، يعلم أن قدرات زمنه تحجم رغبته فى البحث، يعلم
أنه لن ينجز العمل بمفرده لذا أيقن أن عليه فقط وضع الأساس وبقليل من الثقة فى
الأجيال القادمة سيتم الأمر ..
وقد كان!
____
يعود الطبيب الشاب بأنفاس متلاحقة ويجهز الحقنة ثم يدسها فى أحد أوردتها،
ينظر لجهاز قياس ضربات القلب الذى وصلته بها الممرضة للتو فيصرخ بالممرضة مشيراً إلى
جهاز آخر: اتشحن؟
تهز رأسها موافقة فيمسك بالجهاز وهنا يضطر المرافق لترك يدها فيصدمها الطبيب
الصدمة الاولى ومن حسن الحظ أنه لم يكن بحاجة لصدمة أخرى فالمرافق لم يكن ليحتمل
رؤيتها تنتفض هكذا ثانية!
أخيراً استقر المؤشر وأجُبر ذلك القلب المتباطىء على العودة للعمل، ولم تمض
ساعات حتى رحل زوار الفجر قبل ان ينطلق أذان الظهر
كان صوت الراديو يتردد من كشك الحراسة بالمستشفى ..
"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" والآن مع فاصل
من الادعية والابتهالات بصوت الشيخ سيد النقشبندى
كان المرافق لايزال يؤدى دور العصا ولكنه نظر للسماء فى امتنان، ولم ينس أن
يشكر الطبيب بشدة!
أما الطبيب ففى قرارة نفسه كان يقول لعل ذلك الشكر يستحقه رجل اشتهر بلحيته
الصفراء ووجهه الشاحب، لعله يكون قد استراح الآن!