وقفت واضعاً عيناى على نظام
نظرة ثابتة هائمة وعدلت من وضع صدرى إلى وضعية تنهيدات حارة متقطعة وأوقفت كل مهام
عقلى الروتينية وأنا أنظر إلى عينيها سوداء اللون فى استسلام تام، استسلام مريض
للنوم نتيجة لحقنة بنج مركزة ..
نعم يا سادة، إنه الحب!
- أستاذ محمود مش معقول كدة
بقالى خمس دقايق واقفة، فين دوسيه المناقصة؟
كاد يقفز مخى خارج جمجتى ويهتف
بها: أستاذ محمود مش فى حالته الطبيعية، مش وأنتى قدامه على الاقل!
افقت أخيراً من سكرات الحب هذه،
فتحت الدرج الثانى وتحسست يدى المظروف الثالث فى ذلك الصف الطويل واخرجته ثم
أعطيته لها وإبتسامة بلهاء واسعة تملىء وجهى، نظرت لى فى ريبة فرفعت أربع من أصابع
يدى اليمنى مشيراً لها بالتحية وإبتسامتى تزداد اتساعاً وبلاهة، تبسمت محاولة منع
ضحكاتها ودخلت مكتبها ..
صرت اتقافز فى مكتبى ويصدر فمى
كركرة طفل قد انتقل للتو فى رحلة بين السماء والارض منتقلاً بين يدى والده على
نغمات دقات قلب أمه الخائف حين فتحت باب مكتبها ثانية، توقفت عن القفز فأرتفع حاجباها
فى دهشة وقالت: على أى حال متخليش حد غيرك يزعجنى!
أعتقد أن الابتسامة التى ملأت
وجهى ثانية كانت مناسبة تماماً لقياس طول شفتاى ثم أومأت برأسى مجيباً لأمرها،
اغلقت الباب فجلست على مكتبى ومرت نصف ساعة فساعة فساعتين وأنا على هذا الحال حتى
بدأت عيناى فى التفريط فى الدموع فهمست لنفسى: مش دلوقتى، مش هنا على الاقل!
ترى لم فكرت فى البكاء هذه
المرة، كان سبب بكائى لا يفارقنى وكأنه يريد سيولاً من الدموع يروى بها شعيرات
ذقنى التى بدأت تنبت على أمل ألا يجزها موس حلاق ككل مرة ..
سبب بكائى يا سادة أن عكس كل
القصص المعتادة فانا لست المدير وهى السكرتيرة، إنه العكس تماماً فأنا أعمل لديها،
بل وموظف غير ماهر بالمرة، أنا حتى لا أعلم لم تبقى علىّ إلى الآن!
ربما تتسائلون الآن عن سر
سعادتى الاولى، حسناً الامر بسيط فأنا كمن أحرز هدفاً ولكنه الهدف الوحيد فى مبارة
أحرز فيها الخصم دستة أهداف، إنه هدف حفظ ماء القلب بالنسبة لى .. رؤيتها!
تلك المعجزة التى تحدث يومياً،
أصدقونى القول يا سادة فرؤية من تحب هى نعمة تستحق كل الشكر!
- محمود عايزاك!
تلك الجملة! إنها السحر ذاته،
تقولها فتسلب منى روحى التى تتنطلق مع جملة "جاى حالاً" فتسبقنى إليها،
كفانا حديثاً إنها تنتظرنى الآن!
طرقت الباب ودخلت فلم أجدها،
اقتربت من مكتبها قليلاً فوجدت رأسها مدفونة وسط اكوام من الاوراق وما أن أحست
بوجودى حتى هتفت بصوت رجولى غريب: بقولك أيه يا أستاذ محمود معلش، عم رجب مجاش
انهاردة وأنا محتاجة قهوة ضرورى!
هتفت فى إستنكار: أيه ده!
نظرت إلى تلك النظرة الغاضبة
المستنكرة فأكملت بسرعة: إزاى عم رجب يعمل كدة، ثوانى وتكون القهوة جاهزة!
إبتسمت وعادت لأوراقها ..
أه، تلك الحركتان المتتاليتان .. غضب وإستنكار ثم إبتسامة عذبة!
أحس معها إننى أسقط من الطابق
الخامس عشر وأثناء سقوطى بجوار الدور الثانى المح فتاة ملائكية صغيرة تبتسم وتلوح
لى فأبتسم بدورى فاتحاً ذراعى للأرض!
تركت لها قهوتها وعدت لمكتبى
أنهي بعض أعمالى حتى دقت ساعة مكتبها معلنة الرابعة ففتحت باب مكتبها ثم ألقت علىّ
التحية اليومية المعتادة: أنا خلصت يا أستاذ محمود، متنساش تقفل المكتب كويس!
أومأت برأسى وأنا أتابعها تخطو
مغادرة وأنهيت ما كنت أفعله ثم غادرت بدورى، على ناصية الشارع وجدتها هناك داخل إحدى
السيارات تجلس على المقعد المجاور للسائق والمقعد المجاور لها فارغ، فاتجهت بكل
ثقة وفتحت باب السيارة وجلست بجوارها فصرخت فىّ: أستاذ محمود، بتعمل أيه؟
قلت متعجباً وأنا أخرج مفتاح
السيارة: هنهزر بقى؟ أنا خايف لتصدقى موضوع السكرتير ده بجد!
مالت علىّ فى دلال وهمست: ما
أنت إللى مش راضى أجيب حد تانى لحد ما السكرتيرة الجديدة تيجى
أمسكت أذنها بيدى وأنا أعيد
عليها ما حفظته بالفعل: مية مرة اقول مفيش رجالة يشتغلوا فى المكتب وأنا اجازتى
هتخلص قريب وهرجع شغلى والسكرتيرة الجديدة هتبدء شغلها كمان يومين، وعم رجب ده بقى
لازم يمشى!
افلتت أذنها من بين يدى وأصطنعت
الغضب فقلت بسرعة: عم رجب لازم يفضل!
أبتسمت وقالت فى شفقة: ده راجل
غلبان، وبعدين مش كفاية بينزل يوم فى الاسبوع!
ادرت السيارة وأنطلقت بها فتسلل
تيار من الهواء عبر نوافذها وحينها لمعت دمعة بعيناى فقلت لها بصوت ملؤه الضيق:
تعرفى إنى فكرت أنهاردة أن موضوع السكرتير ده بجد!
همست: وبعدين؟
فرددت: ملكيش دعوة
صاحت: يا سلام!
أمسكت يدها مُقبلاً أياها وأنا
اقول فى شغف: عارفة الواحد مبيعرفش قيمة كل حاجة حواليه إلا فى تجليات فكرية كدة
بتجيلى ساعات و ..
قاطعتنى صارخة: نظريات فلسفية
تانى!
التفت برأسى لها وأنا اقول:
بقيتى بتكرهى النظريات الفلسفية دلوقتى؟
صرخت: الطريق يا محمود!
رددت فى برود: والنظريات
الفلسفية؟
صرخت فى خوف: بحبها، والله
بحبها!
عدت التفت للطريق وهى تتشبث
بكتفى ..
لا يا سادة، لن ينتهى الأمر
بحادث سيارة مأساوى، إنها قصة سعيدة تماماً
وكيف لا تكون القصة سعيدة وأنا
بجوارى إمرأة مثلها؟
أختيارات قليلة هى تلك التى تجعل
من مسار حياتك طريق للسعادة الإجبارية، وأنا لم اكن يوماً من هؤلاء الذين يلجمون
قلوبهم واضعين المعايير والشروط، كان قلبى يقودنى ويجر جسدى خلفه ربما ترك به بعض
الندبات التى شفيت مع الزمن ولكنه أنطلق بى إلى مسار دائم من السعادة بجوار إمرأة
اختارها لى هو، وكم أحسن الاختيار!
انطلقت بالسيارة عائداً للمنزل
وأنا أتحدث طوال الطريق عن النظريات الفلسفية ..
أه حسناَ، نامت على كتفى فى
النهاية ولكنها كانت توافقنى الرأى بهمهمات تصدرها أثناء نومها بين الحين والاخر
كالاطفال، دعونى أخبركم إذاً بأحدى نظرياتى الفلسفية عن النهايات السعيدة ..
إنها دائماً هناك تنتظر كل منكم،
فقط أخرج من الظلام ثم أركض واقفز وحلق ولا تتوقف وحين تقع لا تنسى أن تمسح مكان
جرحك وتخرج له لسانك كالأحمق ثم تكمل الركض، فقط أركض بلا توقف حتى تجد من يشاركك
الركض، وعندها ستجد أن السعادة شعور رائع .. للغاية!
***