الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

ظلام ساطع - قصة قصيرة

علت دقات الساعة التى تآكلت حوافها وعبث الصدأ بعقاربها الحديدية العتيقة معلنة الثانية عشر، كانت تعتلى أحد حوائط الغرفة التى إخترقتها المياة فكونت طبقة هشة من الطلاء تتساقط كلما أغلق أحدهم باب الغرفة بقوة، الغرفة التى يفوح منها كل الروائح الكريهة التى يمكن تخيلها حتى أن من بينهم رائحة الموت ذاته!
بالغرفة سرير وحيد بجواره خزانة ملابس حديدية مغلقة بقفل صدأ كمعظم محتويات الغرفة، تمدد مالك الغرفة على السرير مرتدياً جلباب واسعة وكان يسبح عقله فى عالم آخر بينما إسترخى جسده المنهك تماماً ولعل دلالة هذا الإنهاك هى تلك السيمفونية التى كانت تنطلق عبر أنفه بين الحين والآخر ولم يقطعها سوى صوت شهقة الفزع التى أطلقها بغتة ليستيقظ فتمسح عيناه أنحاء الغرفة الضيقة بسرعة ثم تتحسس يداه الصندوق الخشبى الذى جعل منه منضدة وضع عليها ما تسعى إليه يداه ..
مصحف صغير أمسكه فى عناية ثم وضعه جواره ثانية، وبأعين لونتها طبقات من اللون الاحمر ألقى نظرة أخيرة على الغرفة وعاد للنوم!
كانت الغرفة بلا نوافذ، فقط يفصلها عن العالم ذلك الباب الخشبى المتآكل، لم يكن الباب الخشبى يفصل الغرفة عن عالم الأحياء، فأقرب أرض عامرة كانت تبعد أكثر من عشرة كيلومترات، إنه يفصلها عن عالم آخر، عالم خاص بسكان ذلك المكان الذى يحيط بالغرفة من كل جانب ..
المقابر!

على مقربة من الغرفة جلسوا فى شكل دائرى، لو أن هناك صفة تجمعهم جميعاً فهى تلك البشرة الشاحبة وذلك الصوت الخافت ..
أربعة رجال وإمرأتان يتبادلون الاحاديث التعارفية المعتادة ولكن بتلك النظرة المرسومة على أعينهم بدا وكأنهم يفعلونها للمرة التى وصلت لآخر الارقام الحسابية، وبدء هو الحديث بلهجة تحمل خشونة أحباله الصوتية ..

-        لم أكن المذنب على الإطلاق وحتى أبى أجبروه على الامر!

بدا عليهم جميعاً الفهم إلا هو، رجل يجلس جوار إحداهن وعيناه لا تفارق مكان جلوسها، وهى بين الحين والآخر تنظر له خفية، عاد المتحدث لإكمال ما بدء فى لهجة تزداد خشونة ..

-   الثأر! لعنة الصعيد التى إبتلعت أبنائه ظالماً وبرىء، طفل وشيخ!

ربت الرجل الجالس بجواره على كتفه ثم سعل وبدء الحديث كمن سيلقى خطاب سياسى هام ..

-   كان خطأ ساذج، عليك دائماً إحضار متخصص للقيام بتلك المهام، أعنى أن مصباح الشرفة ليس بالشىء المهم ولكنه إصرار زوجتى اللعينة!

هز الجميع رؤوسهم وكأنهم يؤيدون حديثه، وبدا عليه الإستياء لرؤيته الرجل نفسه وقد نام على كتف الفتاة الجالسة جواره!
جاء دور السيدة العجوز فهمست بصوت واهن ..

-        الوحدة فحسب جعلت الامر مقبولاً، بل مرغوباً!
كنت أنتظره وأتمناه ولكن حتى فكرة أن يحدث وأنا وحيدة كانت مؤلمة للغاية، فلو كنت وحيدة لأننى لا أمتلك من قلوب الناس شىء لتقبلت الأمر ولكننى أنجبت العديد من القلوب القاسية!

هزوا رؤوسهم فى أسف بينما علا صوت تثائب صاحبنا فنظروا له جميعاً نظرة عدائية عدا الفتاة الجالسة بجواره، كانت تنظر له فى إشفاق!

إنطلق صوت دعاء الفجر عبر الراديو العتيق الذى وضعه الحارس بعناية أمام الغرفة ومؤشره لا يتحرك من على إذاعة القرأن الكريم إلا يوم وقفة العيد فى جلسة سمر تستمر طيلة الليل وسط الأصدقاء، حين وصل إليهم الصوت حولوا نظرهم للشاب الجالس جوار العجوز يحثونه على الكلام، فبدا مرتبكاً وبلسان ثقيل للغاية إنطلقت الكلمات بطيئة مسترسلة عبر فمه ..


-   إنه التسرع والاندفاع، نشوة الشباب وفرحة الإمتلاك، وليت الضرر يقع على المخطىء فحسب، الجميع يشاركونك الخطأ!
يشاركونك تحمل مسئولية غبائك وتهورك، اللعنة على السيارات ومن يرغب فى إمتلاكها!

نظراتهم له ضاعفت إرتباكه ولو لم يكن الجو شديد البرودة لتساقط العرق من كل خلية بجسده، حين إنتهى إنتقلت نظراتهم للفتاة التى كانت مشغولة بمراقبة صدر الرجل النائم على كتفها يعلو ويهبط، بالرغم أن نظرة عينيها لم تكن توحى بذلك على الإطلاق، كانت نظرة شخص يرى أكثر أحداث الأرض إثارة وأهمية، نظرة شخص يرى حدث يستحق الموت لأجله ..
حاصرتها نظراتهم المتسائلة فضمت يدها بقوة وألقت عليه نظرة أخيرة وبصوت مرتجف أدت دورها ..

-        من أجلى كان يطارد المرض، من أجلى كان يلعن المرض، من أجلى كان يكره المرض!
أخبروه إنه ليس وراثياً ولا يأتى إلا فى حالات نادرة، كان يتألم لألمى، وعدنى إنه سيلحق بى، وعدنى إنه لن يفارقنى!

وحين إنتهت لم يبد أحدهم أى إهتمام بالإستماع إلى الرجل الجالس بجوارها، بدوا وكأنهم يحسدونه بل ويكرهونه أيضاً!

إخترق النور أغشية السماء ليولد فجر جديد، لم يتبق من صحبة الليل سوى ذلك الرجل الذى لم يؤثر عليه ضوء الشمس ويمنحه شىء من اليقظة، بل فعلت هذا يد تلك الفتاة الصغيرة، فتح عيناه ثم أغلقها ثانية حين تسللت أشعة الشمس إلى قرنيته ثم عاد يفتحها ببطء ..
أمسك بالكيس البلاستيكى الذى أخفاه خلف ظهره وإستخدمه كوسادة فى وقت ما من الليل  ثم أخرج منه أحد محتوياته وأودعها يد الفتاة الممدودة، وما إن فعل حتى همت الفتاة بالركض ولكنه إستوقفها ونظر إليها نظرة متسائلة فبدا على وجه الفتاة وكأنها تذكرت شيئاً ثم جلست وبدأت تتلو شىء ما بصوت خافت وما إن إنتهت حتى أعادت محاولة الركض دون أن يمنعها الرجل، ولكن إستوقفها شاب صغير هذا المرة، كان قد تخطى السادسة عشر للتو تستطيع تمييز هذا من ذلك الشارب الخفيف والوجه الذى سكنته الحبوب ..
إستوقفها الشاب الصغير وحاول الإستيلاء على ما أعطاها الرجل للتو فقام الأخير من مجلسه وحاول تخليص الفتاة من يده، عاند الشاب وصفع الفتاة منتزعاً ما بيدها وهنا لم يتمالك الرجل نفسه فأرسل لكمة إستقبلها وجه الشاب فإختلعت ضرسه المسوس وسقط أرضاً، وهنا قام الشاب فى خطوات تدرب عليها كثيراً ولكنها كانت المرة الأولى فى التنفيذ!
أخرج الأداة الحادة من جيب سترته المهترئة وقفز نحو الرجل وأسكنها قلبه ثم أدارها داخله وإنتزعها ثانية وفر هارباً، ولم ينس ما سرقه من يد الفتاة!
تناثرت الدماء من فم الرجل وهو يحاول النهوض وحين أدرك أن محاولاته ستفشل زحف نحو الكيس البلاستيكى الذى لم يلاحظه الفتى أثناء هربه وأعطاه للفتاة التى وقفت تبكى منذ صفعها الشاب، أعطاها الكيس البلاستيكى محاولاً رسم إبتسامة على فمه الدامى وسقط ..
بدا للفتاة وكأنه ينظر لأحدهم ثم همس: أنا قادم!
وكانت آخر كلماته ..
نظرت الفتاة فى الإتجاه الذى ينظر إليه الرجل فى إستغراب ثم تفقدت محتوى الكيس وهمت بالركض ولكنها توقفت وعادت تجلس جوار الرجل محتضنة الكيس البلاستيكى بإحكام شديد كأم تمسك بإبنها الرضيع ثم بدأت تلاوات جديدة ..

أوقد حارس المقابر عدد من الأخشاب تبعث فيه الدفء وعلا صوت الراديو ..

"إذاعة القرآن الكريم من القاهرة الساعة الآن الثانية عشر بعد منتصف الليل، نترككم الآن مع تلاوة عطرة للقارىء الشيخ عبد الباسط عبد الصمد من سورة الأعراف"

على مقربة من غرفته كانوا يجلسون، ينظرون جميعاً لرجل مطعون القلب ويستمعون له بشغف ..
أربعة رجال وإمرأتان يجلسون فى شكل دائرى، أحدهم يملك جسد محطم يجلس بجواره رجل مصاب بطلق نارى فى عنقه وهناك تلك العجوز التى رسم أحدهم الأسى والكأبة على وجهها بإتقان، وشاب رأسه مهشمة تماماً وفتاة شاحبة اللون للغاية ..
إستكمل الرجل مطعون القلب حديثه وهو يمسك بيد الفتاة ..

-   لم اكن أظن أن الأمر سيصل لهذا الحد، أنا أشفق على مصيره ولكنه أسدى لى خدمة العمر، لقد حقق لى ماتبقى من أمنيات، أمنيات من ذلك النوع الذى لا تعيش لتحققه بل السبيل الوحيد إليها هو الموت، أعنى إنهم يقرنون الموت بالظلام ولكننى لا أرى الآن سوى نور وجهها المبتسم!

تأهبت العجوز للحديث ظناً منها إنه إنتهى ولكنه أمسك يد الفتاة بقوة أكبر وإختتم حديثه ..

-        يكفى إننى بجوارها الآن .. وللأبد!

إبتسمت العجوز فبرز فمها الخالى من الأسنان ثم عادت الكآبة تجثم على وجهها وسيطر الحزن عليها حين همست بصوت واهن ..

-        الوحدة فحسب جعلت الأمر مقبولاً ..


***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق