الخميس، 15 مارس 2012

بدون مقابل - قصة قصيرة

موجة من الاشمئزاز اعتلت وجوه الركاب الجالسين فى انتظار المترو حين اقترب منهم ذلك الفتى الأشعث، كان يرتدى ثياباً قد نال منها الزمن وتنبعث منه رائحة  تنفر منها كلاب الشوارع الضالة ..
اقترب من أول الجالسين فى الصف وطلب منه المساعدة فأشار له الرجل بالرفض فما كان من الفتى إلا أن اقترب منه بوجهه وطبع قبلة استعطاف ربما امتزجت بالدموع على كتفه، فدفعه الرجل بعيداً!
كنت على مقربة منهم أتابع ما يحدث وقد شعرت باستياء تجاه ذلك الأحمق لم يكن عليه دفعه، ولم يكن بيدى ما أفعله فأكملت مشاهدة ذلك الفتى ورحلته بين الركاب، أمسك بكيس بلاستيكى فارغ وكرر الأمر يطلب من أحدهم المساعدة فيرفض فيقترب منه الفتى ويقبل كتفه وكانت النتائج تختلف بين متعاطف يضع شىء من النقود فى الكيس البلاستيكى وبين من ينفر منه حتى وصل لآخر الجالسين ..
كانت سيدة أو فتاة منقبة ما أن رأته على مقربة منها حتى تركت الكرسى وابتعدت، واستمر الأمر على نفس الطريقة حتى وصل الفتى إلى مجموعة من الشباب جعلوا منه مصدراً للمزاح وإلقاء النكات على طريقته فى طلب المساعدة وما أن تركهم حتى اقتربت منه هى ..
كانت تقف على الرصيف بانتظار المترو الذى تأخر على غير عادته، وكانت الوحيدة على الرصيف التى تركت شعرها ينساب على كتفيها دون حجاب ولكن ربما كان ما ترتديه مقبولاً عن من يرتدين الحجاب!
اقتربت منه وطرقت على يده لتوقفه ووضعت بالكيس البلاستيكى ربما جنيهاً أو أكثر أعتقد أنها لم تفكر فى ديانة الفتى أو جنسيته كانت المعاملة بينهما معاملة إنسان وإنسان، ثم عادت لمكانها ولم تمر دقيقة حتى بدا وكأنها تذكرت شيئاً ففتحت شنطتها وأخرجت كيس به طعام وعادت للفتى وأعطته له ..

وصل المترو أخيراً، دلفت عبر أحد أبوابه وركبت هى عبر الباب المجاور
وبدأ المترو رحلته ..
طوال الطريق كنت أتابعها بنظرى، كنت أفكر أن أذهب وأخبرها أن ما فعلته كان أنبل موقف شاهدته لفتاة فى حياتى!
فكرت كيف سيكون رد فعلها، ربما تظن أننى أعاكسها!
مرت خمس دقائق وأنا أفكر حتى وجدتها تبكى، هكذا ودون أى مقدمات، تبكى ولم تكن تأبه لأى من الركاب الذين وقفوا جوارها، تبكى وكأنها وحيدة فى غرفتها ..
ربما لم تعرف هى أصلاً أنها تبكى، مرت دقيقتين والدموع تشق وجهاً تحول للاحمرار من شدة البكاء، أخرجت منديلاً وبكل هدوء مسحت دموعها، كنت مأخوذاً بالموقف، كل حركة تفعلها منذ رأيتها تحتاج لسنوات من التفكير والتأمل، علا رنين هاتفها المحمول فأجابته، لم يكن صوتها عالياً ولكننى قرأت شفتيها تقول: أنا لا أستطيع الحديث الآن!
كنت أتابعها كالمسحور واستمر الأمر هكذا حتى وصلنا لأحد المحطات ويبدو أن أحد الركاب عاكس الفتاة فما كان منها إلا أن انتظرت حتى أُغلقت الأبواب وهو بالخارج ينظر لها ببلاهة كمن انتصر فى معركة للتو فأشارت له بحركة تعنى "أنت مجنون ؟"
تمنيت لو أننى أستطيع الذهاب والحديث إليها ولكن مكالمة تلو الأخرى عكس ردها شىءٍ من العصبية، وربما هى لم تكن بحاجة لحديثي!
وصل المترو لمحطتي، نزلت وقد خفت وميض روحى ..
ذلك الوميض الذى تألقت به روحى فقط فى حضرتها، فبكيت مثلها!
راقبت المترو يمضى، غادر ذلك المترو وقد أخذ مني شيئاً ما وأعطانى شيئاً آخر، ربما جلس الفتى الآن يأكل ما أعطته له الفتاة بكل امتنان ولكن المؤكد أن امتنانى لها أعمق وأكبر منه كثيراً، فما أعطته لى كان شىء من تلك الاشياء التى تغير مسار الحياة ..
تماماً!


***

احتضار - قصة قصيرة

"إنه يحتضر" قالتها أحلام ابنة ذلك العجوز الراقد بالفراش محدثة زوجها عبر الهاتف بحروف امتزجت بالدموع ..
استمعت له قليلاً ثم هتفت بحدة: لا يهم، افعل ما تشاء سأبقى بجواره!
سعل العجوز بشدة وحاول جاهداً إخراج بعض الكلمات من فمه ولكنه لم يستطع فاقتربت منه أحلام تقبل رأسه وتقول بحنان بالغ: ماذا هناك؟
همس بأذنها: سأكون بخير، لا تغضبى زوجكِ
وضعت يدها على شفتيه قائلة: لن أتركك الآن، هل مللت مجالستى؟
ابتسم وهو يقول فى وهن بالغ: وهل يمل البشر من الملائكة؟
كانت الكلمات تخرج من فمه بذلك الصوت الضعيف الذى يحمل قسمات المرض وأوجاع الزمن، الشىء الذى تألمت له الابنة فى نفسها
كانت على وشك قول شىء ما حين دلفت أختها الكبرى للغرفة وقالت بصوت جهورى: ألا يوجد بهذا المنزل مطفأة؟
فنهضت أحلام مسرعة لتجذبها خارج الغرفة ثم أغلقت الباب على أبيها وصرخت فى أسىً: نرجس! لن يتحمل أبى رائحة سجائرك تلك، أنتِ تقتلينه!
بدت علامات اللامبالاة على وجه نرجس فأحضرت لها أحلام مطفأة من المطبخ فأخذتها منها وقالت ببرود: فتاة مطيعة!
ثم جلست على أحد مقاعد الصالون الوثيرة تدخن سجائرها بتلذذ، وحين عادت أحلام لغرفة أبيها وجدته يشهق وصدره يعلو ويهبط بقوة وبسرعة قاتلة!
كان يتألم بشدة، أصوات الألم التى كان يصدرها تمزقها!
سالت دموعها ثانية وهى تحاول فعل أى شىء يساعده، وما أن تمالك العجوز نفسه حتى همس بصوت مبحوح: أحضرى أختكِ، أريد إخباركما بأمرٍ هام!
نفذت ما طلب وجلسا أمامه ينتظران ما سيقول فسعل بشدة وخرجت الكلمات من فمه بطيئة واهنة تحمل أثر مرض متمكن وذنب قديم: منذ تركتكم والدتكم لى ورحلت لمكان سألحق بها فيه بعد قليل وأنا أعتنى بكما وكنتما لى الدنيا بأسرها، أعلم أنه كان يجب إخباركم من قبل ولكن ها نحن ما أريد إخباركم به هو أننى كان لي ابنتان، تؤام رائع، أجمل أطفال الارض ولكن مرضاً لعيناً أصابهما ورحلا!
أتذكر دموعك الرافضة لترك أختك يا أحلام فى ذلك الملجأ، لذا أخذتكما معاً وصرتما لى كل شىء!
علا نحيب أحلام وهى تسأله بأسىً: كيف استطعت اخفاء الأمر عنى؟
وقالت نرجس فى لامبالاة: كنت أعلم هذا!
فصرخت بها أحلام: ولم تخبرينى؟
كانت نرجس على وشك الرد حين همس العجوز: لقد قسمت ممتلكاتى بينكما فى الوصية، حافظا عليها!
ولفظ العجوز آخر أنفاسه فارتمت أحلام على جسده الخالى من الروح تبكى من حسبته أبيها!

صرخ الضابط الواقف أمام جسد العجوز فيمن حوله مطالباً إياهم بالسكوت
وبعد أن ساد الصمت لدقيقتين أذن للبواب بالحديث فتقدم الرجل قائلاً بحماس وبلهجة صعيدية خالصة: لقد علمنا بالأمر من تلك الرائحة التى يشمها الجميع الآن، سكان العمارة اشتكوا منها فكسرنا الباب لعلمنا أن الاستاذ عصام يعيش وحيداً
ألقى الضابط نظرة متفحصة أخرى على جسد العجوز ولاحظ تلك الصور التى تشبث بها قبل موته جيداً، الأمر الذى لاحظه وهو يحاول تخليصهم من يده بصعوبة، كانت صور لأربعة فتيات صغيرات فى السن فسأل جار عصام عنهم فعدل الأخير من وضع نظارته وقال فى أسف: التؤامتان هما ابنتاه من زوجته الراحلة وقد أصابهما المرض فى الصغر ورحلتا، أما الصورة الأخرى فهما ابنتاه بالتبنى وقد فقدهما فى حادث سيارة بعد وفاة زوجته، فى البداية تعامل مع الأمر فبالرغم من أنه كان شديد التعلق بهما إلا أن الرجل اعتاد فقدان من حوله لكن فى أيامه الاخيرة كنت أسمعه ينادى بأسمائهم وكان يحكى لى عن ما فعلتاه فى حياتهما بعد الحادث، الغريب أنه فى يوم طلب منى كتابة وصية تنص على تقسيم ممتلكاته بينهما!
انتهى الرجل من الحديث وساد الصمت ثانية ..
لا أحد يعلم حقاً ماذا حدث فى لحظات العجوز الأخيرة، المؤكد لهم الآن أنه مات عجوزاً وحيداً فى فراشه، ولكن من يدرى؟ ربما لم يكن العجوز وحيداً
إطلاقاً!!


***

السبت، 3 مارس 2012

تلك الأوراق - قصة قصيرة

ينتهى من كتابة بعض الأوراق ثم يترك قلمه فوقها ويتمطأ ..
يعيد قراءة ما كتب ثانية، يبتسم فى حسرة ويطوى أوراقه الجديدة جيداً ثم يضمها إليه وكأنها فتاته التى تعرت وسط حشد من الناس حتى أن عينيه كانت تجول فى غرفته التى لم يكن بها سواه ..
أسرع بالأوراق لدرج خاص قد امتلأ بأوراق مشابهة فيضيف تلك الأوراق الجديدة إليه ويغلقه بقوة ثم يعود لمقعده ويبتسم ابتسامة من وضع بذرة للتو فى قلب الأرض منتظراً الحصاد، يبدو منصتاً لتلك الأصوات التى تقتحم عقله دون استئذان، يخرج ورقة صغيرة ويكتب بها ..

"إهداء، إلى تلك الأوراق التى ستظل ملكاً لى وحدى ..
إلى تلك الأوراق التى تحوى ما أمر القلب اليد بكتابته مباشرة دون المرور عبر العقل، إلى تلك الأوراق التى تحمل الحقيقة وتحمل الإجابات ..
ابقِ فى إمان بعيداً عن الأعين!
وأخيراً، إلى من ورد ذكرهم فى تلك الأوراق ..
أنا أعتذر لكم، بشدة!"


***