موجة من الاشمئزاز اعتلت وجوه
الركاب الجالسين فى انتظار المترو حين اقترب منهم ذلك الفتى الأشعث، كان يرتدى
ثياباً قد نال منها الزمن وتنبعث منه رائحة
تنفر منها كلاب الشوارع الضالة ..
اقترب من أول الجالسين فى الصف
وطلب منه المساعدة فأشار له الرجل بالرفض فما كان من الفتى إلا أن اقترب منه بوجهه
وطبع قبلة استعطاف ربما امتزجت بالدموع على كتفه، فدفعه الرجل بعيداً!
كنت على مقربة منهم أتابع ما
يحدث وقد شعرت باستياء تجاه ذلك الأحمق لم يكن عليه دفعه، ولم يكن بيدى ما أفعله فأكملت
مشاهدة ذلك الفتى ورحلته بين الركاب، أمسك بكيس بلاستيكى فارغ وكرر الأمر يطلب من أحدهم
المساعدة فيرفض فيقترب منه الفتى ويقبل كتفه وكانت النتائج تختلف بين متعاطف يضع
شىء من النقود فى الكيس البلاستيكى وبين من ينفر منه حتى وصل لآخر الجالسين ..
كانت سيدة أو فتاة منقبة ما أن
رأته على مقربة منها حتى تركت الكرسى وابتعدت، واستمر الأمر على نفس الطريقة حتى
وصل الفتى إلى مجموعة من الشباب جعلوا منه مصدراً للمزاح وإلقاء النكات على طريقته
فى طلب المساعدة وما أن تركهم حتى اقتربت منه هى ..
كانت تقف على الرصيف بانتظار
المترو الذى تأخر على غير عادته، وكانت الوحيدة على الرصيف التى تركت شعرها ينساب
على كتفيها دون حجاب ولكن ربما كان ما ترتديه مقبولاً عن من يرتدين الحجاب!
اقتربت منه وطرقت على يده
لتوقفه ووضعت بالكيس البلاستيكى ربما جنيهاً أو أكثر أعتقد أنها لم تفكر فى ديانة
الفتى أو جنسيته كانت المعاملة بينهما معاملة إنسان وإنسان، ثم عادت لمكانها ولم
تمر دقيقة حتى بدا وكأنها تذكرت شيئاً ففتحت شنطتها وأخرجت كيس به طعام وعادت
للفتى وأعطته له ..
وصل المترو أخيراً، دلفت عبر أحد
أبوابه وركبت هى عبر الباب المجاور
وبدأ المترو رحلته ..
طوال الطريق كنت أتابعها بنظرى،
كنت أفكر أن أذهب وأخبرها أن ما فعلته كان أنبل موقف شاهدته لفتاة فى حياتى!
فكرت كيف سيكون رد فعلها، ربما
تظن أننى أعاكسها!
مرت خمس دقائق وأنا أفكر حتى
وجدتها تبكى، هكذا ودون أى مقدمات، تبكى ولم تكن تأبه لأى من الركاب الذين وقفوا
جوارها، تبكى وكأنها وحيدة فى غرفتها ..
ربما لم تعرف هى أصلاً أنها
تبكى، مرت دقيقتين والدموع تشق وجهاً تحول للاحمرار من شدة البكاء، أخرجت منديلاً
وبكل هدوء مسحت دموعها، كنت مأخوذاً بالموقف، كل حركة تفعلها منذ رأيتها تحتاج
لسنوات من التفكير والتأمل، علا رنين هاتفها المحمول فأجابته، لم يكن صوتها عالياً
ولكننى قرأت شفتيها تقول: أنا لا أستطيع الحديث الآن!
كنت أتابعها كالمسحور واستمر الأمر
هكذا حتى وصلنا لأحد المحطات ويبدو أن أحد الركاب عاكس الفتاة فما كان منها إلا أن
انتظرت حتى أُغلقت الأبواب وهو بالخارج ينظر لها ببلاهة كمن انتصر فى معركة للتو فأشارت
له بحركة تعنى "أنت مجنون ؟"
تمنيت لو أننى أستطيع الذهاب
والحديث إليها ولكن مكالمة تلو الأخرى عكس ردها شىءٍ من العصبية، وربما هى لم تكن
بحاجة لحديثي!
وصل المترو لمحطتي، نزلت وقد
خفت وميض روحى ..
ذلك الوميض الذى تألقت به روحى
فقط فى حضرتها، فبكيت مثلها!
راقبت المترو يمضى، غادر ذلك
المترو وقد أخذ مني شيئاً ما وأعطانى شيئاً آخر، ربما جلس الفتى الآن يأكل ما أعطته
له الفتاة بكل امتنان ولكن المؤكد أن امتنانى لها أعمق وأكبر منه كثيراً، فما أعطته
لى كان شىء من تلك الاشياء التى تغير مسار الحياة ..
تماماً!
***
رووووووعه بجد
ردحذف