بأعين تتحرك لتحدق فى اللاشىء،
أعين اعتادت رؤية مشهد واحد لا يتغير تفقدت وضعي الحالي للمرة التى وصلت لآخر الأعداد،
كان وجهى طفولياً لا يوحي بالشر، كان ..
أما الآن فغطاء سميك من الكآبة
يجثم عليه كما غطت معالمه أطنان من الأوساخ، أما عن بقية جسدى العاري فالحال واحد،
أجلس على كرسي حديدي صلب ويداي وقدماي مقيدان به بأغلال من حديد والأسوأ أن ذلك
الكرسى وضع فى غرفة بل قل مساحة من الأرض تحوى الكرسى بالكاد وأمامه باب حديدي به
فتحة واحدة يدخل لي الطعام عبرها على قطعة من الصاج فى أطباق بلاستيكية، طبق من
الطعام الردىء وطبق من الماء ولأن يديَّ مقيدتان كنت آكل كالحيوانات، بل أضل
سبيلاً!
أما عن قضاء حاجتى فوضعى هذا لا
يتغير إلا مرة كل شهر تنظف فيها الزنزانة لمدة عشر دقائق فحسب، عشر دقائق أرقد
فيها على الأرض لأن قدميَّ لا تقويان على حملي ثم يعيدونى بعدها إلى الكرسي اللعين
..
أتظنون أننى لم أحاول الانتحار
مرة تلو الأخرى؟ ولكن كيف السبيل إلى الانتحار؟ فالصوم عن الطعام والماء لم يجد
ولم يجلب عليَّ إلا الصعق بالكهرباء كالحشرات ..
لست الوحيد، إننا آلاف هنا فى
ذلك السجن الشاسع نعيش فى ذلك العصر الذى لا يعلم كيف بدأ وكيف سينتهى سوى الخالق،
الخالق الذى لم أعرفه يوماً ..
أتظنون أننى لم أتضرع إليه؟
لقد أقمت كل الشرائع، أقمتها
ناقصة بالطبع!
فكيف أرسم الصليب بيدين مقيدتين؟
وكيف أسجد برأس ثابتة لا تتحرك؟
حتى خيل لى أنني هنا بالجحيم جزاء
ما فعلت بعالم آخر، كم طلبت منهم الموت ورفضوا ..
لا، إنهم لا يرفضون، إنهم
يتجاهلونى!
يتجاهلون الجميع ولا يحدثون
بعضهم البعض أمامنا فنسيت حتى الحديث كيف يكون!
كنت قد استيقظت للتو من اللانوم
على أصوات عراك وصراخ ثم علت تلك الاصوات ليختلط بها صوت انفجارات ووابل من
الرصاص، لأول مرة أسمع أصوات كهذه منذ وضعونى بهذا الجحيم ..
صرخت! صرخت أنا أيضاً ككل سجين
أحس أن هناك نهاية ما قادمة، حتى نهاية كالموت ستكون كافية ومرضية تماماً ..
صرخت لتستعيد أحبالى الصوتية
القدرة على العمل ولم أتوقف حتى اندفعت تلك الدماء عبر فتحة الطعام لتغطي وجهى،
وفتحت الزنزانة بعدها!
بالطبع لم أر شىء فقد غطى النور
وجهى وأنا إلى الظلام أنتمى، ولكننى أحسست بكل قيودى قد أزيلت وعندها فقدت الوعى!
ΨΨΨ
سيسجل التاريخ هذا العصر كأسوأ
عصر عاش فيه الانسان فبالرغم من كل ما وصلنا إليه من تقدم إلا أن خطأ واحدا سيودى
بك إلى سجن واحد وعقاب واحد ..
العزل الانفرادى الأبدى بسجن
تفاحة آدم!
أسموه هكذا لأنهم يقنعون أنفسهم
ويقنعوننا أنهم جعلوا الأرض جنة وهذا السجن هو جحيمها وكأبينا آدم بالكاد نمنع أنفسنا
عن الخطأ، بالكاد نختفى من أعينهم، بالكاد نتحايل على التهم الظالمة ..
نعم لم تطأ قدماي سجن تفاحة آدم
من قبل ولكن لى هناك صديقاً بل أخاً، بل ما هو أكثر!
يمتلك وجه طفولى لا يوحى بالشر
أبداً ولكنه هناك يرقد أسير ذلك المنفى منذ مررنا بتلك الحادثة التى غيرت كل شىء،
حقيقة أنا لا أذكر ما حدث فقد أصيبت رأسى وانمحت ذكرى الحادثة تماماً، فقط ذكرى
الحادثة ذهبت وبقى كل شىء ولم يغب صديقى عن بالى قط فهو بالتأكيد لم يقصد قتل ذلك
الرجل بعربته ..
سنين مرت ولم أنسه حتى جاء ذلك
اليوم وقامت ثورة أبناء آدم كما أسماها البعض واقتحمت السجن مع بقية الناس وبحثت
عنه فوجدته أخيراً وبعد أن أصبت رأس حارس زنزانته أخذت المفاتيح وحررته، كان فاقداً
للوعى حينها فحملته على أكتافى وسارعت به لنغادر ذلك الجحيم حتى أفاق وهمس بأذنى:
حامم!
فرددت: ماذا؟
فظل يردد: محام، حمام .. اسحمت،
استحم!
كان صوته مبحوح بالكاد اسمعه
فقلت فى تردد: نعم، ولكن ليس الآن!
ظل يصر على مطلبه فأخذته لاحد
حمامات الحراس فانكب على أحد الصنابير وفتحها وظل يغسل وجهه ويديه، حقيقة كانت
رائحته لا تطاق!
أسوأ رائحة عرفتها بحياتى، شعور
بالغثيان أصابنى منذ لحظة فتح الزنزانة ولم يفارقنى أبداً!
ربت على كتفه فارتعش جسده، كان
بالكاد يجبر قدميه على الوقوف ثم قلت: سأقضى حاجتى!
وذهبت إلى أحد الحمامات بينما
ظل هو بجوار الصنبور وحين انتهيت سمعت صوت تحطيم وبعدها ساد الظلام، فتحت الباب
ولم أكد أخرج حتى تلقيت ضربة قوية على رأسى فسقطت أرضاً وكان آخر ما رأيت شبح يد
تمتد بأداة ما لتسقط بها على رأسى وبعدها اختفى كل شىء!
ΨΨΨ
افقت فوجدت نفسى محمولاً على
كتفى صديق بل أخ، بل ماهو أكثر! فظللت أردد أننى أريد الذهاب للحمام، ربما لا يدرك
معظم الناس كم هى نعمة مباركة مياه الصنبور، كنت أغسل وجهى ويديى بلا توقف ولكن
رائحتى اللعينة لم تغادرنى قط وتركنى صديقى ليقضى حاجته وحينها تذكرت!
تذكرت الحادثة التى ألقت بى هنا
كل هذا الوقت، تذكرت كل شىء لأنى لم أنس يوماً وحينها اختلعت صنبور المياة وقفزت
محطماً به مصباح الحمام الوحيد، أنا أرى أفضل فى الظلام!
وخرج صديقى ليجد يدى تسحق مؤخرة
رأسه بالصنبور الحديدى ..
ضربة فأخرى فقد وعيه ثم فقد
روحه نفسها، كنت أضرب رأسه حتى تحطمت تماماً وغطت دماؤه الأرض وأغرقت ملابسى
وبعدها جلست جواره وهمست: يا له من عقاب رحيم يا صديقى! الموت، ما أجمل الموت! أنظر
إليك! هادئاً وتنعم بالراحة
ثم أمسكت وجهه وبإصبعين من يدي
اليمنى أمسكت شفتيه ورسمت عليها ابتسامة وهتفت: أنظر! إنك تبتسم أيضاً!! تبتسم
وتضحك كما كنت تفعل فى تلك الليلة المشؤومة، أكان لابد أن أترك لك عجلة القيادة؟
لقد كنت منتشياً يومها وشديد الإلحاح، ثم تفقد ذاكرتك اللعينة بعدها ويرفض القاضي
قصتى الحقيقية، يرفض حتى استجوابك واعلامك أن صديقك العزيز يتهمك ويريدك أن تحل
محله، وهكذا تركتنى أواجه مصيرك!
تحركت أصابعى لا إرادياً لتترك
شفتي صديقى ليخترقا عينيه ويعبثان بمحجريهما وأنا أكمل حديثى: الآن ارقد بسلام وقد
استرحت من أوجاع هذا العالم، والآن ألحق بك!
وما أن هممت بغرس الصنبور
الحديدي فى عنقى حتى سمعت أصوات أقدام تقترب منى ثم صدمنى ذلك التيار الكهربى وفقدت
الوعي، وحين أفقت وجدتنى قد عدت لزنزانتى القديمة!
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق