كل ما مضى بدا كالحلم ..
لم أعتقد يوماً أن الامر سيسير
هكذا!
لقد فكرت به، تخيلته وحلمت به
فى كوابيس عدة ولكن شىء ما داخلى كان ينكره، شىء ما داخلى حاول إقناعى بأننى مختلف
وهاهى الايام أثبتت كذبه!
بدأ الأمر فى وقت بين النوم
واللانوم ..
صداع خفيف سيطر على رأسى
فاستسلمت للفراش ولم أتوقف عن التفكير فى ما سيكون، أحداث كثيرة على وشك القدوم
وكان علىّ أن اصبح دائماً جاهز حتى لا يفاجئنى القدر .. جملة لطالما رددتها!
التجمد، ذلك الخدر الذى أصاب
قدماى فى البداية ثم إنتشر عبر جسدى،
الممر الضيق وذلك النور فى
نهايته ..
"عليك إنجاز العمل قبل
نهاية هذا الشهر" جملة المدير المعتادة تتردد فى أذنى، جملة المدير التى لها
علىّ وقع سوط من نار، ولكن لماذا الآن؟
أى نوع من أضغاث الأحلام هذا؟
ولماذا بدا حقيقياً للغاية؟
مئات الدراويش تجمعوا حولى، لا
أعتقد أن غرفتى تتسع لكل هذا العدد!
يذهبون برؤوسهم يميناً ويساراً
ولا يتوقفون مرددين أذكار لم اسمع لها شبيه من قبل ورائحة بخور تتسلل إلى أنفى بين
الحين والآخر ..
كنت قد وصلت لآخر درجات التجمد
وفقدت أى إتصال بأى من أجزاء جسدى الذى تحول لونه للصفرة، فقط رأسى تعمل وتجاهد
محاولة معرفة ما يحدث، وفجأة توقف صوت الدروايش ولم أجد للبخور حضور وسط أنفاسى
وساد الظلام، ظلام حقيقى لا يشوبه قبس من نور، ظلام أشد حلكة من ذلك الذى تراه حين
تغمض عيناك، وحينها سقطت!
سقطت فى ذلك الممر الشاسع بسرعة
شديدة، فزع دون صراخ وسقوط بلا مهبط، سقوط حر فى ذلك الظلام نحو اللانهاية ..
إستمر الأمر هكذا حتى أحسست إنه
مضى آلاف السنين وحين ظهر ذلك الضوء الشديد فى نهاية الممر شعرت إنه لم يمضِ على
سقوطى سوى ثوانٍ معدودة، كنت أقترب من الضوء فلم تحتمله عيناى وعلا صفير حاد
مخترقاً أذنى فصرخت، وكلما إقتربت من نهاية الممر علا الصفير وعلا صراخى حتى
إقتربت تماماً وإختفى كل شىء ..
لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا
فاقد للوعى ولكن حين فتحت عيناى ثانية كان كل شىء قد إختلف وكأننى أنظر للعالم بأعين
جديدة، أنظر للعالم نظرة مختلفة تماماً، دارت عيناى بالغرفة لأجد إنه لم يمضِ على
فقدانى للوعى سوى خمس دقائق فحسب ثم وقعت عيناى على ذلك الجسد الملقى على الارض
بجوار الفراش .. جسدى!
حينها أدركت إننى لم افقد الوعى
بل فقدت الحياة!
إعتقدت إنه سيصيبنى إحساس حزين
حين أرى جسدى وقد انفصل عنى، ولكن هذا لم يحدث!
أردت إلقاء نظرة على ما أكون
الآن ولكن المرآة تجاهلتنى تماماً، كنت أشعر بالصحة والقوة، عيناى ترى كل شىء
بوضوح شديد، حتى الألوان إختلفت!
لا أعلم ما على فعله الآن ولكن
حين حاولت المضى بعيداً عن الغرفة لأبحث عن زوجتى لم استطع!
شىء ما كان يجبرنى على البقاء
جوار جسدى، حقيقة لم اكن أعلم فى أى وضع أنا، أنا لم أكن اقف على قدمى أو حتى طائر،
أنا فقط كنت هناك ..
وبدأت لحظات الإنتظار المملة، جل
ما أريده الآن أن تأتى زوجتى!
لا أعلم كيف حدث هذا ولكن بمجرد
أن تمنيت الامر مضى الوقت بسرعة فائقة حتى سمعت صوت زوجتى تنادى وتقترب من الغرفة
وحينها ظللت أردد: هيا يا عزيزتى أسرعى!
فتحت الحجرة وما إن وقعت عينيها
على جسدى الملقى بالارض حتى صرخت وإقتربت تنادينى فى يأس حاملة جسدى بين يديها
وحين تأكدت إننى قد فارقت الحياة بدأت بالصراخ والبكاء ..
لم يمر علىّ أى شعور آدمى منذ
وجدت نفسى فى وضعى هذا، حتى عندما وجدت جسدى ملقى أمامى وأدركت إننى فارقت الحياة
لم أفزع ولكن بكاء زوجتى كان يؤلمنى بشدة، صرخاتها ودموعها تزلزل كيانى الجديد!
ظلت تبكى وتصرخ قليلاً ثم اجرت
إتصالات هاتفية بأقاربها، لحسن الحظ كانت هى الاسرة الوحيدة التى أمتلكها، لا أقارب
لى ولم يرزقنا الله بالأبناء
كنت أقترب منها وأنظر فى عينيها
الباكيتين، كم أعشقها!
لم أحس بأى غيرة وأنا أتمنى لها
زوج يشاركها ما تبقى لها من العمر، كنت أشعر براحة وسلام نفسى لم يسبق لى الوصول
إلى هذه الدرجة من قبل وكأننى خلعت رداء الأنانية والشر والبغض ..
مع مضى الوقت نظرتى الداخلية
والخارجية للحياة تغيرت، المشاعر صارت أنقى والألوان أوضح ..
لم يمض الكثير حتى أتى الأقرباء
واحداً تلو الاخر، حقيقة كان ما تراه الأعين أن الحزن يتراقص على وجوههم بينما
تتساقط بعض الدموع وتنطلق صرخة أو اثنتين من آن لآخر لتكتمل سيمفونية رثائى، كنت لأكون
سعيداً بحق لمشاعرهم الطيبة، هذا لو كنت لازلت أرى عبر ذلك الجسد أما الآن فأستطيع
تمييز حزن والدة زوجتى، إنه ليس من أجلى إنها تبكى إبنتها التى حملت لقب أرملة فى
هذا السن المبكر، أستطيع تمييز نظرات إبن خالتها لها وهو يمنى نفسه بأخذ مكانى فى
حياتها، ولكننى لا أشعر بالسوء لكل هذا ..
وأخيراً بدأت المراسم كما توقعت،
وضعوا ملاءة بيضاء لتغطى جسدى وأجروا بعض الاتصالات الهاتفية وحينها تقدم الوقت
ثانية ..
وجدت نفسى أرقد على منضدة حديدة
ورجل غريب يصب الماء الساخن على جسدى العارى، كان الماء شديد السخونة والبخار
يتصاعد من كل أنحاء جسدى ولكننى لم أشعر بشىء بالطبع مع إننى متأكد أن كل خلايا
جسدى كانت تصرخ من الألم، شعور بالرضا إجتاحنى حينها!
لم يدخل علىَّ أحد بعد أن إنتهى
الرجل سوى زوجتى مستندة على كتف أمها التى رمقتنى بنظرة خاوية أما هى فطبعت قبلة
حانية ممزوجة بالدموع على وجنتى وغادرت، وحينها تقدم الوقت ثانية لأجد نفسى
محمولاً على الأعناق فى جنازة مهيبة يعلو بها صوت الصراخ والبكاء ..
أنا حتى لا أعرف أياً من تلك
النساء، أى مجاملة حمقاء هذه!
صوت الصراخ كان مصدر ضعفى
الوحيد، لم أعرف طعم الألم إلا على نغماته الحزينة، لم يكن يهدىء من روعى إلا تلك
التمتمات الداعية ..
وأخيراً وصلت المسيرة لمنتهى
المطاف، كنت أنظر لشواهد القبور من حولى، جميعهم قضوا أضعاف أعمارهم فى هذا المكان
..
مكان واحد ينتمون إليه ولم
يغادره أياً منهم، كنت أستطيع رؤيتهم ينظرون إلىّ، بعضهم واجم والبعض الاخر هادىء
مبتسم ..
أخيراً وضعوا جسدى بذلك المكان
الموحش وأحكموا إغلاقه وكأنهم يخشون أن تدب فى حياة أخرى وأحاول المغادرة ثم جلس
بعضهم يبكى ويصرخ ليجتاحنى الألم ثانية والبعض الآخر يتمتم بالادعية التى لم أفهم
معظمها ولكنها كانت تشعرنى بشىء من الطمأنينة وبمجرد إقتراب حلول المساء صاروا
ينسحبون واحداً تلو الاخر حتى غادر الجميع، وحين حل الليل فقدت الإتصال بذلك
العالم ..
كنت شديد القرب من جسدى الذى
أصبح وجبة دسمة لدود الارض محدقاً فى الظلام الذى إختلف كثيراً وصار أكثر كآبة،
ظلام خالص لا يعرف له النور طريق، ومنتظراً حدوث شىء ما ..
لا أعلم إن كان قد أسرع بى
الوقت ثانية أم أننى ظللت أنتظر ولكن فى كل الأحوال لم يطل إنتظارى ..
وسمعت النداء!
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق