الأربعاء، 28 ديسمبر 2011

جنة قاتل - قصة قصيرة

"أيها العابد، هناك مَنْ يريد مقابلتك" قالها صبى صغير وغادر راكضًا ليكمل اللعب مع اقرانه حين دخل هو، كان شاب فى الثلاثين يبدو بحالة يرثى لها، عينان منتفختان من قلة النوم، لحية طالت حتى وصلت لصدره، ملامح تصرخ بالإرهاق!
قام العابد مرحبا به وجلسا على أريكة فى حجرة العابد الضيقة، افتتح العابد الحديث وقال بصوت دافىء: ماذا وراءك يا رجل؟ أخبرنى بما أتيت من اجله، هل كانت رحلتك طويلة؟
تأوه الشاب وسقطت دموعه وهو يقول: وما أشقها من رحلة، وما أطولها من رحلة!
إلتزم العابد الصمت فأكمل الشاب: قالوا لى إنك أعبد أهل الأرض وأقربهم للخالق
أومأ العابد برأسه ولم يكسر صمته فأكمل الشاب ثانية: سؤال ..
سؤال واحد فحسب، هل يقبل الخالق توبة رجل قتل تسعة وتسعين نفس؟
انتفض العابد وقام من مجلسه وبدت كل أعراض الذهول والاستنكار على وجهه فانتقلت تلك الأعراض على هيئة خيبة أمل عند الشاب الذى حبس أنفاسه فى انتظار الجواب وهنا قال العابد بصوت حاد: لا، لن يقبل توبة من قتل أنفس بريئة، لن يقبل توبتك ابدًا، أنت ملعون! ملعون!!
كانت كلمات العابد كالخناجر تطعن فى قلبه، إحمرار عيناه تضاعف، عروقه انتفخت، سكينه التصقت بقبضته فقام بغتة ليسكنها قلب العابد وهمس بأذنه: إذًا فلا مانع من جعلهم مئة!
ترك الشاب العابد يواجه سكرات الموت، كان حضور ملاك الموت يعنى رحيله، مئة مرة يتكرر الامر!
مئة قتيل، مئة قبر، عشرات الثكلى، عشرات الأرامل، عشرات اليتامى ..
كلها أفكار تدور برأس الشاب الذى اتجه لمكان لم يذهب اليه من قبل، ولكن فى هذه اللحظة كان متأكدًا أنه المكان الذى ينبغى عليه الذهاب إليه ..
أحس أنه حيث ينتمى، أحس أنه الوطن!



ما إن دخل الشاب مقابر القرية حتى صار يتراقص بين الأضرحة كالمجنون وبدأ يصرخ فيها بكل قوته: أيها الموتى، يا مَن إلتهم أجسادهم دود الارض ورملها، يا فاقدى الارواح، يا أهل الباطن، أخبرونى بالله عليكم أهو حقًا رحيم؟ أم إنكم تحترقون فى جحيمه الان؟ أهو حقًا رحيم؟
قالها وبدأ البكاء، يبكى ويكررها صارخًا: أهو حقًا رحيم؟
حتى لمح كومة من الأخشاب فاقترب منها واضرم فيها النيران!
وأخذ يطوف حولها وهو يردد كالمجنون: إنها تحترق، النيران تأكل كل شىء، ونظر للسماء وصرخ: أين الرحمة؟
وحينها اصطدمت بوجهه آلاف الحبات من مياه الأمطار!
وامتزجت قطرات الأمطار بدموعه، للحظة أصابه الذهول فألجم لسانه ثم بدأ يصيح بفرح: إنها تمطر، لقد اُطفِأت النيران، إنها تمطر بحق رحمة الإله!

"نعم تمطر، أكنت تريد أن تصل النيران لهذه الأضرحة؟"
قالها عجوز رقيق الحال بصوت عميق وهادىء، انتفض الشاب والتفت اليه سائلاً: من أنت؟
"مَن أنا ؟ أتريد حقاً ان تعلم من أنا؟ الحقيقة أن هذا لا يهم، المهم إننى اعلم من أنا، أعلم حدودى، أعلم قدراتى، اختياراتى وقراراتى، ماضىَّ وحاضرى، السؤال هو، هل تعلم من أنت؟"
قالها العجوز وجلس على أحد الأضرحة أما الشاب فسقط على ركبتيه وقد التصقت يداه برأسه ثم رفع رأسه وقال بأسى: أنا رجل يخاف من نفسه، أخاف النظر فى المرآة، أخاف الحديث إلى نفسى، كأنها تنادينى ولا أجيب!
أومأ العجوز برأسه وقال: وماذا ايضاً؟
أخذ الشابُ نفساً عميقاً وقال بصوت باكٍ: أنا قاتل لعين يبحث عن رحمة الخالق!
حكَّ العجوز لحيته وقام يربت على كتف الشاب وقال بصوته العميق: هذا جيد، جيد جداً، وترى هل وجدتها؟
هز الشاب رأسه نافياً وقال بحزن وأًسًى: أخبرونى أنه لا رحمة لى!
ضحك العجوز بقوة جعلت لضحكته صدًى غريب تحس معه أن الموتى يشاركونه الضحك فقال الشاب بغضب: حذار من السخرية أيها العجوز!
ظل العجوز يضحك ثم توقف بغتة قائلاً: ولكننى لا أسخر منك، أنا أسخر ممن قال لك هذا!

-        أتسخر من عابد فارق الحياة؟
-        أقتلته؟
-        نعم!

عاد العجوز للضحك ثانية وما إن توقف حتى قال للشاب بحماس: إنهض يا فتى، سِرْ فى هذا الطريق حتى تصل لبيت ستظنه سيسقط ويسوى بالأرض ولكن رحمة الإله تبقيه صامداً وحين تصل اسأل عن عابد زاهد!
زمجر الشاب: عابد مرة اخرى؟
ضحك العجوز وقال وهو يغادر: نعم يا صديقى عابد آخر، هيا ليس لديك ما تخسره ولكن ارجوك لا تجعلهم مئة وواحد فأنا أحب هذا العابد!

قالها وظل يضحك وصدى ضحكته يتردد مع الشاب فى طريقه للعابد ..
وصل الشاب للبيت المقصود ودخله بحذر فوجد العابد يجلس وحوله بعض من مريديه فانتظر حتى انصرف الجميع وجلس أمامه حيث لعب وجه العابد الهادىء دورًا كبير فى تغيير نبرة صوت الشاب الذى قال بهدوء واطمئنان: جئت لأسألك سؤالًا واحداً!
أشار العابد بيديه وقال ..

-        قبل أن تسأل، أنت تعلم أنك تمتلك إجابة على سؤالك، إنها بداخلك تتردد وتصرخ بأذنك كلما مر السؤال على عقلك، الإجابة لديك منذ البداية!
-        لقد أرهقنى التفكير
-        ليس مبررًا كافيًا، عليك إتمام الطريق!
-        فقط أجب على سؤالى
-        أنت لم تطرحه بعد!
-        هل يمكن أن يقبل الخالق توبة رجل قتل مئة نفس؟
-        كان سيقبلها عندما كانوا تسع وتسعين!
-        ماذا؟ أتعنى إننى أهدرت الفرصة بأكمالهم مئة؟
-        كنت تعلم الإجابة طيلة الوقت، الخالق سيقبل توبتك سواء الآن أو من قبل، فقط كُن صادقًا فى توبتك!
-        دلنى على الطريق، ساعدنى أيها العابد التقى أنا غارق يبحث عن قطعة من الحطب
-        غادر هذه المدينة وأتجه للشمال ستجد قرية يعبد الناس فيها الخالق فأعبد الخالق معهم ولا تعد لهذه المدينة أبدًا!

هم الشاب ليغادر وما إن اتجه للباب حتى قال العابد: إن وصلت للقرية فلا تخبرهم بأمرك!
أومأ الشاب برأسه ممتناً وغادر فابتسم العابد عندما وجده قد ترك سكينه مكان جلوسه ..
بدأ الشاب رحلة جديدة .. رحلة أخيرة!
طوال الطريق وهو يردد ابتهالات طلب المغفرة، لا يعلم مَن علَّمَهُ إياها!
إنها تنطلق من حلقه فحسب، حتى وصل لبئر ماء وما إن ارتوى حتى أحس بتلك الصدمة التى انتابت قلبه فسقط على ركبتيه، إنه يعلم هذه الأعراض جيداً! سكرات الموت!!
الدموع تنهال من عينيه وهو يردد بصوت مجروح: ولكننى لم أصل بعد!
وكان آخر ما نطق: الرحمة يا خالقى!
وسقط قرب البئر، سقط الجسد أما الروح فارتفعت للسماء يحيط بها الملائكة، ملائكة الرحمة والعذاب، كلاهما يطالب بهذه الروح، كلاهما له حجة قوية تؤيد مطلبه!
وظهر العجوز ثانية ليقول لهم: لتقاس المسافة التى قطعها الرجل، إن كان أقرب للمدينة فهو لملائكة العذاب وإن كان اقرب لقرية الصالحين فهو مع ملائكة الرحمة!
وقيست المسافة واصطحبت الملائكة الشاب للسماء ..
اصطحبته ملائكة الرحمة!


***

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

تجاهل - قصة قصيرة

وقف جيران عادل مع بواب العمارة يتحدثون عنه وكانوا يلقبونه بالساكن الجديد ..

-        إنه حتى لا يلقي السلام على أي منا!
-        لقد التقت عينانا ولم يلقِ علي التحية، إنه يتجاهل الجميع، من يظن نفسه؟
-        ولكن الحق يقال ألقيت عليه السلام فى مرة فرد مبتسماً

فى الميكروباص جلس إبراهيم وهو يضع سماعات المحمول بأذنه، حين سأله السائق عن الساعة لم يرد، حين طلب منه جاره بالمقعد الافساح قليلاً لم يتحرك ..

اتجه عادل لبوابة العمارة بينما يتحدث الجيران مع البواب عنه وكانت البالوعة مفتوحة، كان من السهل تفاديها على أى أحد ولكنها أسقطته أرضاً
ركض الجميع لمساعدته على الوقوف، كان فى قمة الحرج وهو يهمهم بكلمات غير مفهومة فقام أحد الجيران بتمرير يده أمام عينى عادل ..
كان عادل ضريراً!

نزل إبراهيم من الميكروباص، أخرج سماعات المحمول التى لم تكن تصدر أى صوت ووضعها فى جيبه، ألقى نظرة مطولة على الشارع قبل عبوره فهو لا يستطيع سماع آلات التنبيه ..
كان إبراهيم أصم!


***

الأحد، 18 ديسمبر 2011

كلمتان - قصة قصيرة

يقولون إن الله يفعل ما يشاء مستخدماً كلمتين فحسب "كن فيكون"
فى الحقيقة كلمتان يصنعان الكثير، فأنا دُمرت حياتى بكلمتين ..

"سرطان بالرئة" قالها الطبيب لذلك المريض الشاب الجالس أمامه ..
بدا الشاب شاحب الوجه ولمعت الدموع فى عينيه عندما سمع الطبيب الذى وضع الأوراق وهز رأسه بأسف فتحول شحوب الشاب الى احمرار الغضب صارخاً فى وجه الطبيب: أنت حتى لم تمهد لى ذلك، ألا تشاهد أفلام لعينة؟ أنت طبيب فاشل، أنت دمرت حياتى!
قالها وترك أوراقه ما بين إشاعات وتحاليل وفحوصات وتركها هى أيضاً .. علبة السجائر!

الأفكار تجول  برأسه، حساسية شديدة ولد بها بالإضافة لصغر حجم رئتيه
وتلعب الذكريات دورها فيتذكر كيف كانوا يضعونه على أجهزة التنفس الصناعى منذ صغره بين الحين والآخر، وهنا يحين دور الحديث مع النفس فيصمت صارخاً ذلك الصراخ الذى لا يُسمع له صوت خارجى: هم قتلونى، دمائى معلقة فى رقابهم!
نعم قتلوه، فعلبة السجائر تلك كانت أول علبة يشتريها فى حياته وذلك ليمزق ما بها ويلقيه أرضاً، طريقة غريبة للتنفيس عن الغضب!
يتجه لمحل عمله، يبدو رفاقه كعادتهم يراجعون الأوراق الخاصة بالعمل وكعادتهم أيضاً تصنع سجائرهم سحب من الدخان تغطى الغرفة التى تضم خمس مكاتب، سحب الدخان البيضاء أثارت جنونه وبدء الصراخ الذى يسمعه الجميع: لقد قتلتونى، كل منكم شارك فى قتلى، سلبتونى حياتى الثمينة، قتلة! انظروا لوجهى جيداً ذلك الوجه الذى لن يراه أى منكم ثانية!
قالها وصفع الباب خلفه بقوة، أخذ نفساً عميقا وبدء السعال ..
آثار دماء على يده حين غطى بها فمه ينظر إليها بمرارة ويغادر المبنى، يسير فى الشارع وكلما اقترب منه مدخن يرمقه بنظرات الحقد والكراهية
يتمنى لو انقض عليه وأخرج روحه بيديه، حين علا صوت هاتفه المحمول!




يقولون إن الله يفعل ما يشاء مستخدماً كلمتين فحسب "كن فيكون"
ومن الواضح إنه استخدمهم ليكتشف الطبيب خطأ فادحا فى التحاليل ويصبح المرض الذى لدي بسيط ويسهل علاجه على المدى الطويل!
أما المدخنين فكلمتين فحسب ستبرر موتهم او قُل مقتلهم ..
قتلتهم سيجارة!


***

الجمعة، 2 ديسمبر 2011

شكوى المريض للميت - قصة قصيرة

"قد يكون حوار بين روح وجسد، قلب وعقل
قد تكون محادثة بين رجل وامرأة، طفل وشيخ
ولكن المؤكد أنها آخر ما قاله أحدهما!"


-        الآن تلجأ لي؟ بعد كل ما فعلت، انظر لكم الخراب الذى صنعته، لقد دمرت كل شيء! انظر لكم ما خسرته، ما خسرناه!
-        لم أكن أدرِ!
-        ومن يدري؟ لا أحد يدرى، إنها العادة! يسيرون فى طرق لا يعلمون نهايتها، يرتجلون! الآن تلجأ لي؟ وماذا ستفعل حين أصلح كل شيء؟ تنتشي، تحتفل، تنعم بما أحققه وتعود محاولاتك للسيطرة على الأمور وإفسادها ثانية!
-        لن أفعل، لقد سئمت!
-        سئمت؟ أي مزاح هذا؟ أنت لا تسأم، أنت لا تتوقف، دائماً ما تريد فرصة جديدة وتختلق الأعذار وتكذب
-        لم أعد أستطيع!
-        لماذا؟ ماذا تغير بعد كل شىء؟ هل كانت الصدمة قوية هذه المرة؟
-        أنا ..
-        أنت ماذا؟ هل افتعلت كذبة جديدة؟ دعني أخمن، ألفتها من دقائق؟
-        صدقني أنا ..
-        آه! قلت صدقني، أنا أعلم ما تعني صدقني فى قاموسك!
-        أنا أحتضر!!
-        أنت ماذا؟ لا، لا يمكنك! لم يحن الوقت بعد!
-        أقسم لك أن الأمر صحيح هذه المرة
-        لا يمكنك الذهاب، بالرغم من كل أخطائك إلا أن سذاجتك وتسرعك وشراسة من حولك أودت بك لتلك الأخطاء، ولكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد! حتى قسوتي عليك، إنها من أجلك حتى تصبح أفضل، حتى تتخلى عن تلك المبادىء الواهية والعالم العجيب الذي وضعت نفسك فيه .. ستبقى!
-        أنا آسف!
-        كف عن هذا بحق الله

-        أعلم أنك ستبلي جيداً بدونى!
-        لا، أنا بدونك آلة! جنونك واندفاعك يبثون فيَّ الروح، أنت لا يمكنك الذهاب، ربما ستذهب كعادتك لبعض من الوقت ولكن حتماً ستعود!
-        ربما!
-        أنت تتألم! وأنا اتألم!! نتألم بشدة والعجيب أن الكون لم يتأثر، الحياة لم تقف، نحن تخلفنا عن كل شيء فحسب!
-        إنهم يشاهدون، لا تدع لهم فرصة!
-        تلك الأعين؟ إنها تلاحقنا، أعرفها جيداً، تدور حولك كحلقة من الصقور، تنتظر سقوطك، تنتظر صيد سهل!
-        لقد حان الوقت، تعلم ما عليك فعله!
-        تصحيح الأمور؟
-        أنا آسف، لم يكن هذا ما أردت! لم أكن أريد نهاية كهذه!
-        سأصلح الأمور وعندها ستعود، أعدك بهذا! لا ترد؟ هل حان الوقت؟ سأعيش من أجلي ومن أجلك، لأنك ستعود، مؤكد ستعود!!


***