"إنه يحتضر" قالتها أحلام ابنة ذلك
العجوز الراقد بالفراش محدثة زوجها عبر الهاتف بحروف امتزجت بالدموع ..
استمعت له قليلاً ثم هتفت بحدة:
لا يهم، افعل ما تشاء سأبقى بجواره!
سعل العجوز بشدة وحاول جاهداً إخراج
بعض الكلمات من فمه ولكنه لم يستطع فاقتربت منه أحلام تقبل رأسه وتقول بحنان بالغ:
ماذا هناك؟
همس بأذنها: سأكون بخير، لا
تغضبى زوجكِ
وضعت يدها على شفتيه قائلة: لن
أتركك الآن، هل مللت مجالستى؟
ابتسم وهو يقول فى وهن بالغ:
وهل يمل البشر من الملائكة؟
كانت الكلمات تخرج من فمه بذلك
الصوت الضعيف الذى يحمل قسمات المرض وأوجاع الزمن، الشىء الذى تألمت له الابنة فى
نفسها
كانت على وشك قول شىء ما حين
دلفت أختها الكبرى للغرفة وقالت بصوت جهورى: ألا يوجد بهذا المنزل مطفأة؟
فنهضت أحلام مسرعة لتجذبها خارج
الغرفة ثم أغلقت الباب على أبيها وصرخت فى أسىً: نرجس! لن يتحمل أبى رائحة سجائرك
تلك، أنتِ تقتلينه!
بدت علامات اللامبالاة على وجه
نرجس فأحضرت لها أحلام مطفأة من المطبخ فأخذتها منها وقالت ببرود: فتاة مطيعة!
ثم جلست على أحد مقاعد الصالون
الوثيرة تدخن سجائرها بتلذذ، وحين عادت أحلام لغرفة أبيها وجدته يشهق وصدره يعلو
ويهبط بقوة وبسرعة قاتلة!
كان يتألم بشدة، أصوات الألم
التى كان يصدرها تمزقها!
سالت دموعها ثانية
وهى تحاول فعل أى شىء يساعده، وما أن تمالك العجوز نفسه حتى همس بصوت مبحوح: أحضرى
أختكِ، أريد إخباركما بأمرٍ هام!
نفذت ما طلب وجلسا أمامه
ينتظران ما سيقول فسعل بشدة وخرجت الكلمات من فمه بطيئة واهنة تحمل أثر مرض متمكن
وذنب قديم: منذ تركتكم والدتكم لى ورحلت لمكان سألحق بها فيه بعد قليل وأنا أعتنى
بكما وكنتما لى الدنيا بأسرها، أعلم أنه كان يجب إخباركم من قبل ولكن ها نحن ما
أريد إخباركم به هو أننى كان لي ابنتان، تؤام رائع، أجمل أطفال الارض ولكن مرضاً
لعيناً أصابهما ورحلا!
أتذكر دموعك الرافضة لترك أختك
يا أحلام فى ذلك الملجأ، لذا أخذتكما معاً وصرتما لى كل شىء!
علا نحيب أحلام وهى تسأله بأسىً:
كيف استطعت اخفاء الأمر عنى؟
وقالت نرجس فى لامبالاة: كنت أعلم
هذا!
فصرخت بها أحلام: ولم تخبرينى؟
كانت نرجس على وشك الرد حين همس
العجوز: لقد قسمت ممتلكاتى بينكما فى الوصية، حافظا عليها!
ولفظ العجوز آخر أنفاسه فارتمت
أحلام على جسده الخالى من الروح تبكى من حسبته أبيها!
صرخ الضابط الواقف أمام جسد
العجوز فيمن حوله مطالباً إياهم بالسكوت
وبعد أن ساد الصمت لدقيقتين أذن
للبواب بالحديث فتقدم الرجل قائلاً بحماس وبلهجة صعيدية خالصة: لقد علمنا بالأمر
من تلك الرائحة التى يشمها الجميع الآن، سكان العمارة اشتكوا منها فكسرنا الباب
لعلمنا أن الاستاذ عصام يعيش وحيداً
ألقى الضابط نظرة متفحصة أخرى
على جسد العجوز ولاحظ تلك الصور التى تشبث بها قبل موته جيداً، الأمر الذى لاحظه وهو
يحاول تخليصهم من يده بصعوبة، كانت صور لأربعة فتيات صغيرات فى السن فسأل جار عصام
عنهم فعدل الأخير من وضع نظارته وقال فى أسف: التؤامتان هما ابنتاه من زوجته
الراحلة وقد أصابهما المرض فى الصغر ورحلتا، أما الصورة الأخرى فهما ابنتاه
بالتبنى وقد فقدهما فى حادث سيارة بعد وفاة زوجته، فى البداية تعامل مع الأمر
فبالرغم من أنه كان شديد التعلق بهما إلا أن الرجل اعتاد فقدان من حوله لكن فى أيامه
الاخيرة كنت أسمعه ينادى بأسمائهم وكان يحكى لى عن ما فعلتاه فى حياتهما بعد
الحادث، الغريب أنه فى يوم طلب منى كتابة وصية تنص على تقسيم ممتلكاته بينهما!
انتهى الرجل من الحديث وساد
الصمت ثانية ..
لا أحد يعلم حقاً ماذا حدث فى
لحظات العجوز الأخيرة، المؤكد لهم الآن أنه مات عجوزاً وحيداً فى فراشه، ولكن من
يدرى؟ ربما لم يكن العجوز وحيداً
إطلاقاً!!
***
:((((
ردحذف