فى أحد احياء القاهرة الشعبية
استيقظ جلال صالح امين الشرطة بإحدى فرق الأمن المركزى على صرخات زوجته فى ابنهما
الوحيد لتأخره عن ميعاد المدرسة ..
بدت عليه علامات الضيق وهو
يتمتم: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم!
ثم سعل بشدة معلناً لابنه
استيقاظه فخطف حسين شنطة المدرسة وغادر المنزل فى عجلة فابتسمت الام ودخلت على زوجها وهى تقول: صباح
الخير ياخويا، معلش صحيتك من النوم الواد مغلبنى ومش عايز يروح المدرسة
نظر إليها فى ضيق قائلاً: لما ييجى
انهاردة أنا هعرف اربيه، ده أنا بربى عيال شُحطة مش هاعرف اربى المفعوص ده!
فقالت له فى استعطاف: معلش
ياخويا مصيره يكبر
استغرق جلال نصف ساعة ليرتدى
زيه الخاص وتأكد من أن مسدسه محشو ثم قال فى صوت جهورى: أنا نازل يا ام حسين
فهرولت إليه وسألته بلهفة: هو
فى حاجة انهاردة؟ نازل بدرى ليه؟
طبع قبلة على وجنتها وهو يقول:
العيال بتوع الجامعات اتجننوا اليومين دول
امتقع وجهها وهى تقول: تروح وتيجى
بالسلامة
لم يكن اليوم كأى يوم، هذا ما
شعرت به ام حسين وهى تدعو بخفوت: ربنا يستر!
لم يكد جلال يمر امام القهوة
المجاورة لمنزله حتى حياه الجميع فى تضرع فالجميع يعلم بطشه ومن ينسى جاره ابو
علاء وماحدث له ولاولاده عندما تشاجر مع جلال!
تذكر جلال قبل مغادرته للشارع إنه
بحاجة لكوب من الشاى فرجع للقهوة التى افسح له صاحبها مكاناً مميزاً وهو ينادى صبيه
لخدمة جلال الذى قال فى عجلة: واحد شاى تقيل بسرعة ياض!
واخرج سيجارة من علبته ودخنها
بتلذذ ثم احضر له الصبى كوب الشاى وتركه ليرى باقى طلبات الزبائن، ولم تمضِ دقيقة
حتى نادى جلال الصبى الذى أتى مهرولاً ليصفعه جلال على وجهه فسقط أرضاً وجلال يسبه
أشنع السباب فتدخل صاحب القهوة قائلاً: فى أيه يا جلال باشا؟
زمجر جلال وهو يهتف فى غضب: أقوله
عايز شاى تقيل يجبلى مياة!
أخذ صاحب القهوة كوب الشاى وهو
يقول: هاعملك الشاى بنفسى!
ثم نظر للصبى بعطف وقال له بغضب
مصطنع: غور من هنا الساعة دى
غادر جلال الشارع ليجد أحد
العساكر يجهز البوكس فركب جوار السائق وهو يقول فى غلظته المعتادة فى الحديث: اطلع
يابنى!
ثم اخرج اللاسلكى وتحدث إلى
مساعده مدحت قائلاً: الميكروباصات جاهزة؟
فرد مدحت: كله تمام يا باشا والرجالة بتوعنا
جاهزين
احتشد مئات من الطلاب بمختلف انتمائتهم
خلف اسوار الجامعة وعساكر الأمن المركزى يحيطون بهم بعصيهم الغليظة ودروعهم
السميكة، وصلت عربة جلال الذى نزل منها متعجلاً وما أن رأى كم الطلاب المتظاهرين
حتى هتف مستنكراً: أيه كل دول؟
ثم أدى التحية لأحد الضباط فى
زى مدنى وهو يقول: كله جاهز يا باشا!
نظر إليه الضابط حسام قائلاً فى
ضيق: ما لسه بدرى!
تنحنح جلال قائلاً: كنا بنفهم
العيال المسجلين ليموتوا حد من إللى بيتظاهروا فى الشارع
نظر له حسام فى شرود وقال: مش
مهم!
فإستأذنه جلال وذهب ليتفقد
الترتيبات الأمنية بينما تعلو أصوات الطلاب وبدء الاشتباك مع الأمن المركزى والضباط
فى الزى المدنى يأخذون من يقود المظاهرة وعربات الميكروباص تجول حول الجامعة، أما جلال
فكان ينظم العساكر عندما لمح الضابط حسام ويده ستهبط على فك فتاة لتحطمه, وقبل أن
تسقط يده على وجه المسكينة أوقفته يد جلال، فصرخ به حسام بغضب شديد: فى أيه يا
حيوان؟
جر جلال الفتاة لتقف خلفه وهو يقول:
إلا البنت دى يا باشا!
جز حسام على أسنانه فأصدرت صوت
مخيف وقال: ومين دى؟
نظر جلال للأرض وقال بخفوت: بنت
اخويا
علت إبتسامة خبيثة وجه حسام وهو
يسأل جلال: وأيه إللى بيطلع بنت اخوك فى مظاهرات؟
رد عليه جلال بضراعة: غلطة ومش
هتتكرر يا فندم
بدا حسام وكأنه وحش يكشر عن أنيابه
وهو يقول: وكل غلطة وليها ثمن، هات البنت يا جلال!
أمسك جلال بكف الفتاة بقوة وأخذها
وبدءا السير بعيداً وترك حسام يصرخ خلفه: هات البنت يا جلال!
ثم اخرج مسدسه وضرب جلال فى
ساقه اليمنى فتوقف برهة ثم سقط على الأرض وهو يهمس فى أذن الفتاة: اجرى!!
فجرى حسام خلفها ولكن جلال تشبث
بقدمه فأقبل العساكر على جلال يضربونه بعصيهم حتى فقد الوعى ..
أفاق جلال فى إحدى المستشفيات
الحكومية فوجد زوجته وابنه الصغير واخاه ينظرون إليه بلهفة وزوجته تقول بسعادة:
حمد الله على سلامتك يا ابو حسين!
إبتسم جلال وحول نظره لاخيه وهو
يقول بصوت خافت: البنت بخير؟
فأجاب اخاه: الحمد لله، بس ..
سأله جلال بصوت أشبه بالبكاء:
بس أيه؟
مال اخاه على أذنه وهمس بها:
هيحاكموك عسكرياً!
لم يرد جلال فالأسى فى عينيه
كان خير مجيب، كل ما فكر فيه جلال فى هذه اللحظة كان حياته تمر امامه كفيلم من أفلام
الأبعاد الثلاثية الجديدة، كم كان قاسٍ وظالم، كم يريد تغيير هذا وتبديل ذاك ولكن
الماضى لا يتغير!
إذاً فهو بحاجه لبداية جديدة ..
هذا ما تردد فى عقل جلال، هذا
كل ما يحتاجه ..
فقط بداية جديدة!
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق