الثلاثاء، 8 نوفمبر 2011

الراصد - قصة قصيرة

انطلقت الرحلة المنتظرة، تايتنك تشق الأطلسى بعد طول إنتظار ويودعها المئات الذين أصطفوا لمشاهدة السفينة وتوديع عائلاتهم واصدقائهم، جميع الركاب يشعرون بفخر لا مثيل له بداية من أغنى رجل بالدرجة الأولى والذى لاحظ أن الجميع يشير إليه بأعين زائغة إلى أفقر طاهى بالدرجة الثالثة والذى لاحظ نفور زميله بالغرفة من رائحته السيئة ..
لم يكن الأثرياء فحسب هم محل أهتمام أهل السفينة، كان هناك تلك الفتاة الساحرة التى لم تتخطى سنوات عمرها الخمسة عشر عاماً تبث فى السفينة فرح وسعادة وكأنها تغمر كل مكان تعبره بأكسير السعادة السحرى الذى تطلقه عيناها الزرقاوين، وذلك الشاب الوسيم ذو العشرين ربيعاً والذى ظل محل أنظار كل فتيات الدرجة الثانية ليومين على التوالى حيث يجلس وحيداً لا يفعل شىء سوى الكتابة فيبدو شارداً للحظات يراقب ما يحدث حوله ثم يكتب ثم يعود للشرود ثانية فى رتم ثابت لم يغيره يوماً حتى أن إحداهن أقسمت لصديقتها أنها رأته كما لو كان يستمع لأحدهم بل ويجيب عليه وهو يجلس وحيداً!
حتى الساحرة الصغيرة تملكها الفضول نحوه فصارت تجرى حوله لترى ما يفعل، كان يكتفى بالنظر إليها مبتسماً ثم لا تلبث أن تلتقى عيونه بعيونها فتجتاحها تلك الرجفة وتركض مبتعدة وشعرها الأصفر يتطاير خلفها وفى الساعات الأولى من خامس أيام تايتنك بالأطلسى حدث ما لم يتوقعه أحد، أصطدمت تايتنك بذلك الجبل الجليدى وأهتزت الباخرة العملاقة هزة علم معها قبطان السفينة إنها سترقد فى أعماق الأطلسى قبل طلوع الشمس وكعادة الكوارث تأتى مصطحبة الصراخ والبكاء والشعور بالضياع ..
إجتاح ركاب السفينة هيستيريا من الخوف، فكرة أن تغرق فى ذلك الماء المثلج كانت تقتلهم وتشل عقولهم، كل ركاب السفينة يتشاركون حالة الخوف الهيستيرى بداية من أغنى رجل بالدرجة الأولى والذى سقط وسط الجموع الهائلة وداسته الأقدام إلى أفقر طاهى بالدرجة الثالثة والذى ساعد السيدات والاطفال فى ركوب قوارب النجاة ..
أثنان فحسب إختلفا عن الجميع وتخلفوا عنهم، أثنان فحسب جلسا على مقعد ظل ثابت بالرغم من تقلبات السفينة ، مقعد جلس عليه ذلك الشاب الغامض وبجواره الفتاة الساحرة، مشهد بالرغم من غرابته إلا أن أحداً لم يكترث به!
الشاب يكتب ويغرق الصفحات بالحبر والفتاة تصرخ به وهى تجلس بجواره تصرخ فحسب دون أن يتضمن صراخها أى كلمات، وتبكى أيضاً! هو لم يعرها أى انتباه فبالرغم من ذلك الجو المتجمد كان يتصبب عرقاً كما لو كان يجلس بإحدى أدغال أفريقيا فى منتصف الصيف ..
يكتب ثم يتوقف عن الكتابة ويراقب ما حوله ويعود للكتابة كروتينه المعتاد وعندما ألقت نظرة على ما يكتبه لم تفهم أبداً تلك الكلمات التى يستخدمها، تلك اللغة التى بدت لها إنها خلقت من أجله، توقفت عن الصراخ وحاولت الوقوف والمضى بعيداً إلا أن رجل يركض نحو قوارب النجاة صدمها فعادت عند قدميه ثم لم تلبث أن وقفت وبدأت بركله بقدميها ويدها فأكتفى بأن قال لها فى هدوء شديد: لا يوجد وقت أذهبى لقوارب النجاة، سيعطون الأولوية لطفلة مثلك!
كانت نظرتها لا توحى بأنها فهمت ما قال بالرغم من إنه قالها بالإنجليزية لغة معظم ركاب السفينة بداية من أغنى رجل بالدرجة الأولى والذى حاول إخفاء لدغته فى بعض الحروف ولكن أكتشف الجميع الأمر وسخروا منه إلى أفقر رجل بالدرجة الثالثة والذى كان يكتشف الجميع أصله الإيطالى حين يتحدث الإنجليزية لذا ظل الشاب يردد ما قال بالعديد من اللغات فالشاب يتحدث كل لغات أهل الأرض، ولكن ظلت نظرة عدم الفهم على وجهها فأمسك بكتفيها وركز عيناه على وجهها فصدر من عينيه ذلك الوميض الأزرق المتقطع الذى شهقت له الفتاة وأخيراً صاح: اللعنة، أنتِ صماء!
حملها ووضعها بجواره على الكرسى وداعب خصلات شعرها ممراً أظافره على فروة رأسها فسقطت مغشياً عليها، أكمل الكتابة حتى كاد الماء أن يغمر السفينة فأمسك بالفتاة وتلاشيا معاً!

كل ما تذكُره الفتاة أنها كانت تقف أمام ذلك الشاب ثم أستيقظت لتجد نفسها فى غرفة كبيرة للغاية بها ألوان لم تشاهد مثلها من قبل وأشياء أغرب، حاولت النهوض ولكن شىء ما منعها، كانت تستلقى على دائرة من الفراغ جسدها طائر فى الهواء ولا تستطيع الحراك وفى مكان أخر قريب جلس الشاب ورأسه محنى ينظر للأرض بينما يحدثه أحدهم ولكن الشاب لم يكن على هيئته السابقة كان اللون الأزرق يغطى جسده بحروف وأرقام ورموز غريبة تستطيع أن تميز منها الهيلوغريفية والأغريقية واللاتينية ..
كان الرجل الأخر يصرخ به: أنت الراصد وظيفتك نقل الحدث وتدوينه وحفظه ثم تمريره للعين فينقله إلىّ، ليست وظيفتك أو وظيفة أى منا إنقاذ البشر!
قاطعه الراصد قائلاً بصوت خافت: يمكنها العمل معنا سيدى
ضحك الأخر قائلاً: تعمل معنا؟ بشرية فانية تعمل معنا؟
هل جننت؟ أم يجب على أن أذكرك من نحن وماذا نفعل؟
نحن التاريخ يا غاميث، نحن من نسجل للبشر تاريخهم وبدوننا لم يكن ليملكوا أى ماضٍ، نعم نحن لا نعطيهم كل ما لدينا ولكننا نعطيهم ما يكفيهم نحن الحقيقة والإشاعات، أتعلم لِم لا ننقذ البشر؟ لإننا ببساطة لا نستطيع، نحن نعلم بالحدث ونسجله فحسب ثم نرسل بتفاصيله للبشر، لا يمكننا تحذيرهم أو إنقاذهم، أين الفتاة؟
وقف الراصد قائلاً بذلك الصوت الخافت: وماذا تريد منها؟
ضحك ضحكته العصبية ثانية وقال ساخراً: أتظننى أريد إيذائها؟ إنها تحتضر الأن بينما نتحدث!
ما أن سمع الراصد هذا حتى أنتقل بالرجل لغرفة الفتاة التى شحب وجهها مائلاً للزرقة، كانت تتجمد!
هتف الرجل: عليك إعادتها، إنها لاتزال هناك!
أمسك الراصد بيد الفتاة وعاد ثانية، عاد لتايتنك أو ما تبقى منها ..
كانت الفتاة لحسن حظها لا تدرك إنها تطير بين يدى الراصد فى الهواء وكلاهما أشبه بالأشباح، كان يبحث بين قوارب النجاة وأخيراً وجدها!
صورة طبق الأصل من الفتاة التى بين يديه فاقدة الوعى والموت يغطى ملامح وجهها، أقترب ولم يشعر به أحد وأخيراً ألقى الفتاة التى بين يديه على الفتاة الراقدة بالقارب فأرتطمت بها كأرتطام الماء بالماء وحين تتطابقوا فتحت عيناها لتجد إشارات الأستغاثة تحيل السماء نهاراً

فى عام 1942 -بعد ثلاثون عاماً على غرق تايتنك- وفى ذروة الحرب العالمية الثانية كانت الفتاة التى أصبحت إمرأة كبيرة تجلس فى أحد الأنفاق تحت الأرض حيث تشعر بالأمان وسط أصوات الحرب والقتال، تلك الأصوات التى لم تسمعها يوماً لم تكن تخيفها ولكن أبنائها يرتعشون رعباً لسماعها، وجاء ذلك الشاب ذو العشرين ربيعاً ليجلس بجوارها ثم ألتفت إليها ووضع بين يديها ظرف ملىء بالأوراق وخطاب، ثم تركها وأختفى وسط الجموع ففتحت الخطاب لتجده قد كتب به ..

"أنا الراصد، تقابلنا للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً واليوم أحضر لك فى الظرف الورقى بعض حكايات تايتنك والتى لا يعلم أحد أى شىء عنها، يمكنك نشرها فى كتاب خاص بك سيحقق نجاحاً كبيراً وسيساعد أسرتك فى تخطى الأزمة المالية التى تمرون بها"


***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق